هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

لا تفهمونا غلط

مهرجان الإسكندرية السينمائي.. نجاح يواجه المعاناة وينتصر للإرادة

 

مهرجان الإسكندرية السينمائي واحد من المهرجانات التي لا يمكن تجاهلها في تاريخ الحركة السينمائية المصرية والعربية، فهو ليس مجرد حدث فني عابر وإنما مشروع ثقافي كبير يحمل اسم مصر ويضعها على خريطة السينما العالمية، خاصة في محيط دول البحر المتوسط. هذا المهرجان الذي تأسس منذ عقود طويلة حمل رسالة واضحة في نشر الثقافة السينمائية وإيجاد جسور للتواصل بين الشعوب عبر الفن السابع، ومن هنا كانت له قيمة تتجاوز حدود العرض والفرجة إلى آفاق أوسع من الحوار والإبداع.

لكن الحقيقة أن المهرجان رغم أهميته وقيمته يتعرض في السنوات الأخيرة لتحديات متزايدة تهدد استمراره بالصورة التي تليق بمكانته وتاريخه، وهو ما يثير القلق ويطرح أسئلة حقيقية حول مستقبل المهرجانات في مصر، وهل نحن بصدد الحفاظ على الكيانات الكبرى ذات الجذور العميقة أم نتركها تضعف لصالح مهرجانات صغيرة متفرقة لا يعرف عنها أحد شيئاً؟

لقد توقفت عن المشاركة في معظم المهرجانات منذ سنوات لأنني وجدت على الساحة عدداً ضخماً من المهرجانات التي لا تحمل أهدافاً واضحة ولا تقدم إضافة حقيقية للثقافة أو السينما، مجرد فعاليات شكلية بلا مضمون، حتى التكريمات فيها فقدت معناها وصارت جوائز توزع على الجميع بلا تمييز ولا معايير، بينما التكريم الحقيقي لا يكون إلا اعترافاً بالتميز والقدرة على الإبداع والإنجاز. لكنني رغم ذلك أؤمن أن هناك عدداً قليلاً جداً من المهرجانات التي تبقى اسمها عنواناً لقيمتها، وفي مقدمتها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومهرجان الإسكندرية السينمائي، وبعض المهرجانات الأخرى ذات التاريخ الطويل.

موقفي لم يكن ضد كثرة المهرجانات في حد ذاتها، بل على العكس، أنا أؤمن أن وجود مئات المهرجانات ليس أمراً سلبياً إذا كان لكل مهرجان هدف ورسالة واضحة، إذا كان يعبر عن فكرة ويروج لفن أو ثقافة، إذا كان يحمل فكراً حقيقياً للحفاظ على الهوية والتراث، ويدعم المواهب الشابة ويمنحها الفرصة للظهور، ويتيح مساحات للحوار والنقاش، ويعزز السياحة في الوقت نفسه. نحن بحاجة إلى مثل هذه الفعاليات التي تعكس صورة مصر الثقافية للعالم، لكننا لا نحتاج إلى مهرجانات بلا مضمون أو هوية.

أمس فقط تابعت افتتاح الدورة الحادية والأربعين من مهرجان الإسكندرية السينمائي، وكان حفلاً مشرفاً بكل المقاييس. حضور متميز لنجوم مصر ونجوم دول البحر المتوسط، وتنظيم رائع رغم كل التحديات، وأجواء فنية راقية أعادت لنا صورة المهرجان التي نحبها. هذا النجاح في ظل الإمكانات المحدودة يرجع لإدارة المهرجان التي أعرف جيداً حجم المعاناة التي تمر بها طوال عام كامل، إذ يبدأ التحضير للدورة الجديدة بمجرد انتهاء الدورة السابقة، لكنهم رغم كل الظروف يصرون على تقديم صورة مشرفة لمصر.

المشكلة الكبرى التي يواجهها المهرجان هي نقص التمويل. ليس من المعقول أن يحصل مهرجان بهذا التاريخ والمكانة على دعم من وزارة الثقافة لا يتعدى مليون ومائتي ألف جنيه، وهو مبلغ متواضع للغاية إذا ما قورن بمبالغ طائلة تضخ في مهرجانات أقل قيمة وأقل تأثيراً. كيف يمكن لمهرجان دولي أن يجذب نجوم العالم ويستضيف وفوداً كبيرة ويقيم فعاليات كبرى بهذا الدعم المحدود؟ النتيجة أن المهرجان يظل مقيداً، لا يستطيع التوسع ولا يمكنه أن يحقق ما هو مأمول منه على المستوى الدولي.

ولا يقف الأمر عند حدود وزارة الثقافة، فالمهرجان في جوهره ليس مجرد نشاط ثقافي محدود، بل هو واجهة لمصر وصورة حضارية يجب أن تشارك في صياغتها وزارات أخرى مثل السياحة والطيران والخارجية. وزارة السياحة كان يجب أن تدرك أن المهرجان فرصة كبرى للترويج لمصر كوجهة سياحية عالمية، وزارة الطيران كان عليها أن تضع خططاً لتسهيل حركة الوفود والضيوف، وزارة الخارجية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في فتح قنوات اتصال مع دول المتوسط لتوسيع قاعدة المشاركة. لكن غياب هذا التنسيق يجعل المهرجان وكأنه مسؤولية جهة واحدة بينما هو في الحقيقة مشروع وطني كبير يحتاج إلى تكاتف الجميع.

التحديات لا تتوقف عند مسألة التمويل والدعم، بل تتجاوزها لتصل إلى جوانب البنية التحتية. فمهرجان دولي بهذا الحجم يحتاج إلى قاعات عرض حديثة مجهزة بأفضل التقنيات، وإلى منظومة إعلامية قوية قادرة على الترويج داخلياً وخارجياً، كما يحتاج إلى برامج تدريبية وورش عمل تفتح المجال أمام الشباب للتعلم والتفاعل مع كبار خبراء السينما. هذه العناصر مجتمعة هي ما يمنح المهرجان ثقله الحقيقي ويجعله مدرسة للأجيال الجديدة، لا مجرد فعالية سنوية عابرة. ورغم أن بعض هذه الجهود تُبذل بالفعل، فإنها تظل محدودة وتكاد تختنق تحت وطأة ضعف الموارد وقلة التمويل.
الحل من وجهة نظري يبدأ بتغيير النظرة إلى المهرجان، علينا أن نتعامل معه كمشروع قومي وليس كفعالية ثقافية محدودة. المطلوب أن تكون هناك خطة واضحة لتمويله من خلال مشاركة القطاع الخاص، فشركات الإنتاج ورجال الأعمال يمكن أن يقدموا دعماً كبيراً إذا شعروا أن المهرجان يعطيهم مساحة إعلامية وتسويقية حقيقية. كما يجب أن يكون هناك تعاون جاد بين الوزارات المختلفة لوضع المهرجان في مكانته الطبيعية كأحد أبرز المهرجانات الإقليمية والدولية.

نحن اليوم على أعتاب حدث عالمي هو افتتاح المتحف الكبير، وهذا الحدث يجب أن يكون دافعاً لنا لندعم مهرجاناتنا الكبرى التي تحمل اسم مصر، لأن صورة الدولة في الخارج تبنى من خلال مشروعات ثقافية وسياحية متكاملة. لا يعقل أن نستعد لافتتاح حدث بحجم المتحف الكبير ونترك مهرجان الإسكندرية السينمائي يواجه مصيره وحيداً بلا دعم كاف ، ومن هنا أطالب بكل الدعم لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته القادمة التي ستواكب افتتاح المتحف الكبير.

من هنا أوجه ندائي إلى وزير الثقافة ووزير السياحة ووزير الطيران ووزراء الخارجية والهيئات الإعلامية ورجال الاعمال والمؤسسات الكبري ، أن يتعاملوا مع مهرجان الإسكندرية باعتباره مشروعاً وطنياً، وأن يمنحوه ما يستحقه من دعم وتمويل ورعاية. فهذا المهرجان ليس ملك إدارته فقط، بل هو ملك لمصر كلها، وحفاظنا عليه حفاظ على صورتنا الثقافية أمام العالم.

إن مهرجان الإسكندرية السينمائي يظل تحدياً، لكنه في الوقت نفسه فرصة كبيرة، فرصة لإعادة صياغة دور المهرجانات الفنية باعتبارها أدوات للترويج الثقافي والسياحي والاقتصادي، وفرصة لتعزيز مكانة مصر كقوة ناعمة مؤثرة في محيطها. قد تكون المعوقات كثيرة لكن الإرادة الحقيقية قادرة على تجاوزها، والمستقبل كفيل بأن يثبت أن المهرجان إذا حصل على ما يستحقه من دعم سيعود ليكون في صدارة المهرجانات الدولية، ويواصل رسالته في نشر الثقافة السينمائية وبناء جسور التواصل بين الشعوب، وهي الرسالة التي من أجلها تأسس وبها يستمر.

أخيرا 

وبعد كل ما سبق لا يسعني في ختام هذا المقال إلا أن أتوجه بالشكر للصديق العزيز الناقد السينمائي الأمير أباظة رئيس مهرجان الإسكندرية السينمائي، ذلك الرجل الذي يقود سفينة المهرجان بكل ما فيها من تحديات ومعوقات، ويصر عاماً بعد عام على أن يظل المهرجان قائماً ومؤثراً، محتفظاً بمكانته على خريطة المهرجانات السينمائية الدولية.

كما أوجه التحية لكل القائمين على إدارة وتنظيم هذا المهرجان الذين يعملون في ظروف صعبة ووسط إمكانات محدودة، لكنهم يقدمون نموذجاً في الإخلاص والوفاء لفكرة الفن والثقافة. ولا يفوتني أيضاً أن أشكر نجوم مصر الذين يحرصون على المشاركة في المهرجان، إيماناً منهم بقيمته وتاريخه، وإدراكاً منهم أن مهرجان الإسكندرية ليس مجرد مناسبة فنية، بل هو رمز من رموز القوة الناعمة المصرية، ومجال حقيقي لإبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه السينما في صياغة صورة مصر الحضارية والثقافية أمام العالم. وبالفعل "مهرجان الإسكندرية السينمائي.. نجاح يواجه المعاناة وينتصر للإرادة"
مصطفي البلك
[email protected]